مقالات للكاتب

أحمد ضياء دردير

الإثنين 9 كانون الأول 2024

شارك المقال

سوريا مرّة أخرى: الخروج من الفتنة؟


ينبغي أن نقبل، على اختلاف توجهاتنا وميولنا وأهوائنا، بمصطلح «الفتنة»، إذا ما أردنا أن نخرج منها. يعني قبولنا بمصطلح الفتنة أن نتفهم فرح الفرحين واستبشارهم بسقوط الأسد، بل ونفرح لهم، ولو وجدنا أنفسنا ميالين إلى حلفائه: لا يمكن أن نرى مشاهد تحرير المعتقلين من السجون في حلب وحماة وغيرها، وعودة الناس إلى أهلهم من بعد سنين من الغياب، من دون أن تثلج صدورنا. كما يعني أن نفهم تخوفات المقاومة على خطوط امتدادها، وتخوفات أنصار النظام، بالذات من الأقليات، في سوريا، على مصيرهم في ظل حكم جماعات المعارضة حتى وإن وجدنا أنفسنا ميالين للمعارضة ومشروعها.
ثمة قراءات إقليمية إستراتيجية، هذه لا يمكن تحييدها لأنها ليست حسابات مجردة، بل أمور يتعلق بها مصير الناس؛ لسنا نعادي الاستعمار، على سبيل المثال، لأننا لا نحب وقع الكلمة أو لأننا نكره الأجنبي، ولكن لأن الاستعمار يخلق نظاماً من النهب والتدمير وتوزيع الموت، ويترك حيزاً للمستبد المحلي ليشاركه في هذه العملية من التدمير والانتفاع. ولهذا، عندما نتحدث عن هذه المخاوف فإننا لا نفعل ذلك من باب استرخاص الدم السوري، بالعكس هي حسابات تتعلق بالدم السوري والعربي لعقود قادمة.
وفي الوقت نفسه، لا يمكننا أن نقول لمن وجدوا فرصة لتحرير أهليهم من المعتقلات أو لإزالة قبضة قمعية بغيضة عن مدنهم «انتظروا قليلاً فثمة حسابات إقليمية إستراتيجية تجعل من الضروري أن تعضوا الجرح أكثر».

لا يمكننا أن نقول لمن وجدوا فرصة لتحرير أهليهم من المعتقلات أو لإزالة قبضة قمعية بغيضة عن مدنهم «انتظروا قليلاً فثمة حسابات إقليمية إستراتيجية»



أقول هذا وأنا لا ألتمس للطرفين عذراً، أو وأنا ألتمس للطرفين العذر: حزب الله كانت له قراءته التي رأى عبرها أن هذه الحرب هي دفاع عن ظهره وخطوط إمداده، ولكن هذا ورّطه في حماية الجرائم المستمرة لحليفه. وكل من أراد التحرر من نظام الأسد كان على حق في إرادته ولكننا نعلم كذلك أن هؤلاء ظهر من بينهم من رهن هذا الحق لمشاريع طائفية أو عميلة للصهيونية والاستعمار. كما لا أُلزم حزب الله بجرائم حليفه فإننا لا يمكن أن نُلزم كل المعارضة السورية بانحرافات بعض أطيافها، ولكن، كما أقول بأن حزب الله تورّط في حماية من يرتكبون الجرائم، فإن الجماعات التي عبّرت سياسياً عن المعارضة السورية أو حاربت باسمها لم تقدّم حتى الآن (وهذه قد تتغيّر في المستقبل القريب) مشروعاً بديلاً لانحرافات الطائفيين والمتصهينين أو رادعاً لهم. عبارة «أدوات أميركا» التي يلوكها أنصار نظام الأسد تضرّ أكثر ممّا تفيد: هي تختزل حالة شعبية وعسكرية واسعة في بعض فصائلها وبعض المخططات التي تحيط بها، وتقفز على ماضٍ كانت فيه بعض هذه «الأدوات» أوّل من واجهوا أميركا بينما حلفاء المحور كانوا يهادِنونها (بل وشارك بعضهم في قمع الانتفاضة في الفلوجة وغيرها ما أدّى إلى ردّ فعل طائفي مقيت أخذ شيعة العراق بجريرة بعض زعمائهم الذين ارتضوا أن يلعبوا هذا الدور، تماماً كما يبرّر بعض أنصار النظام قصف المدنيين في المدن الموالية للمعارضة بأن هؤلاء هم أدوات أميركا). ثم إنْ كانت حكماً أخلاقياً فإنّ الأحكام الأخلاقية تتغيّر بحسب تغيّر تصرّفات من تطلق عليهم هذه الأحكام (ما دمنا قبلنا أنها فتنة يضل فيها الناس ثم يرشدون)، فأدوات أميركا في العراق أصبحوا الآن أعضاء كباراً في «محور المقاومة». وإن كانت العبارة تحليلاً للدور الذي يلعبونه فإن أحد الأسئلة التي يستدعيها هذا التحليل هو «كيف يمكن أن ننزع هذه الأدوات من يد أميركا؟». لا يعني هذا أن المقولة باطلة تماماً: لسنا بحاجة أن ننحدر إلى سذاجة القائلين إن «نتنياهو قد أعطى الأمر» لنرى أن هيئة تحرير الشام قد وجدت فرصة مواتية من بعد انتهاء الحرب في لبنان لتشنّ هجومها على النظام السوري في لحظة لن يكون من السهل على حلفائه أن ينجدوه (قد أحسنوا إذ أحجموا هذه المرة، ما حدا بالبعض بالذهاب إلى نظرية مضادة مفادها أن «المحور» قد قرّر التخلّي عن الأسد خاصة وقد تقارب هذا الأخير مع محور السعودية من قبل هذه الحرب ثم أصبح هو وخطوطه الحمراء وتوازناته عبئاً في مرحلة ما بعد «الطوفان» التي تفرض قواعد اشتباك جديدة). ولهذا، إنّ الخوف من استثمار المخابرات التركية والأميركية والإسرائيلية لهذه التداعيات هو خوف حقيقي ومنطقي ولا بد منه، وإن كان لا يعني بالضرورة أنّ هذه الأحداث ستخدم حتماً هذا المحور: إذا كان الغريب يعرف كيف يتعاطى مع هذه السيولة فما بال الأخ؟ ينبغي أن يختلط الخوف من التدخلات الأجنبية بالأمل في ترتيبات جديدة للقوى المجاهدة والمرتبطة بآمال شعوبها. كانت المقاومة قد أخرجتنا، أو أخرجت بعضنا، من الفتنة مؤقتاً قبل أن نسقط فيها ثانيةً، والآن ينبغي أن نفكّر في أن الخروج من الفتنة هو من مصلحة المقاومة، وأن المقاومة، أو الاتحاد على مشروع التحرر الوطني، من مصلحة مشروع الخروج من الفتنة.
* باحث عربي من مصر

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي